من مكة أن الله أعطاه النبوة: فنعم النبي، ونعم السيد، ونعم العشيرة. فجزاه الله خيرا، وعرفنا وجهه في الجنة، وأحيانا على ملته، وأماتنا وبعثنا عليها. وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له حتى إذا ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال أنكر ذلك عليه ناس، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانعطف عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله، من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه مع ذلك، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش، يتجرون فيها، وكانت مساكن لتجارهم، يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا، ومتجرا حسنا، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخافوا عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم، ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم، فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة، مخافتها، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال، فلما استرخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم، تحدث باسترخائهم عنهم، فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد استرخي عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون، فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، وجعلوا يزدادون ويكثرون، وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا الإسلام بالمدينة، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت قريش ذلك، تآمروا على أن يفتنوهم ويشتدوا، فأخذوهم، فحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، فكانت الفتنة الآخرة، فكانت فتنتان: فتنة أخرجت من خرج إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة، ثم أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا، رءوس الذين أسلموا فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم، على أنا منك وأنت منا، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فاشتدت عليهم