مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب. والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضا.
ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه، والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري. ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز- في حدود الطاقة البشرية- هو موضوع كتاب مستقل. فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا ..
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري .. إن له سلطانا عجيبا على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفا .. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل .. ولن أذكر نماذج عما وقع لغيري؛ ولكن أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما .. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب أجانب، ليس منهم مسلم .. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية وإزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا! .. وقد يسر لنا قائد السفينة- وكان إنجليزيا- أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من
لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة .. وقمت بخطبة الجمعة وإقامة الصلاة؛ والركاب الأجانب- معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا! .. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القداس»!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول:- في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! .. وليس هذا موضع الشاهد في القصة .. ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه