التي كان يتحدث بها «قسيسكم»؟! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلا قسيس. أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة-! وقد صححنا لها هذا الفهم! .. وأجبناها .. فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفا .. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه .. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا .. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة! إنها شئ آخر! كما لو كان- الإمام- مملوءا من الروح القدس- حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها- وتفكرنا قليلا. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعوا إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا.
وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة- ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد- ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرا آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته.
وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب .. ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شئ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه- وسره هذا- وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية.
ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب. قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير. ومن يزاولون التفكير والشعور.
إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضا، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو، ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال. ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود