للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التعبير عنها. يتم في الحس كما في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل. وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.

وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا: قياما واتجاها إلى القبلة، وتكبيرا وقراءة وركوعا في الصلاة. وإحراما من مكان معين ولباسا معينا، وحركة وسعيا ودعاء، وتلبية ونحرا وحلقا في الحج. ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم .. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص ...

ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة. وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه .. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. كما أنه بدوره ينشئ شعورا بالامتياز والتفرد. ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة. كالنهي عن طريقهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال والظواهر. وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج على جماعة فقاموا له:

«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا».

وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» صلى الله عليه وسلم.

فنهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة وسلوك، ونهى عن تشبه في قول أو أدب .. لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. ثم هو نهي عن التلقي من

<<  <  ج: ص:  >  >>