هذه الحضارة، وتملك زمامها، وتوجيهها في صالحهم، والتأثير في الأدب والتربية، والسياسة والفلسفة، والتجارة والصحافة، ووسائل التوعية والإعلام، حتى أصبحوا العنصر الفعال الرئيسي في قيادة الحضارة الغربية التي ظهرت في بيئة مسيحية، وفي حضانة شعوب آمنت بالمسيح، واحتضنت اسمه هذا العهد الطويل، ويبدو للناظر المتعمق في الحوادث الأخيرة، والمطّلع على مدى نفوذ اليهودية العالمية في المجتمع الغربي، أن هذه الحضارة وما تحوي عليه من علم وفن، ستبلغ نهايتها السلبية، وتصل إلى ذروتها في قوة التدمير، والهدم والإفساد، والتلبيس والتدجيل، على أيدي اليهود الذين مكّن لهم الغرب المسيحي- بغفلة منه وجهل بمراميهم البعيدة وطبيعتهم الحاقدة- كل تمكين، وأتاح لهم كل فرصة لم يكونوا يحلمون بها قبل قرون، وكانت في ذلك أكبر محنة للإنسانية، وأكبر خطر على العالم، فضلا عن العرب، الذين يكتوون بنارهم، فضلا عن المنطقة المحدودة التي يجري فيها هذا الصراع الحاسم.
لذلك نرى أن لهذه السورة اتصالا وثيقا بالمسيحية واليهودية، فقد تعرّضت للعقيدة المسيحية في مفتتحها، وهكذا تبتدئ السورة الكريمة:
وقد كانت السمة البارزة الثانية للحضارة التي نشأت في حضانة المسيحيين، وشبّت وترعرعت تحت رعايتهم، الشغف الزائد بهذه الحياة المحدودة الفانية. والحرص على تمديدها وتزيينها، والمبالغة في إجلالها وتفخيم شأنها، والاتجاه إلى نفي كل ما وراءها، من مثل وقيم وخيرات ونعم، والاقتصار على التنافس في السيطرة على أسبابها وطاقاتها وذخائرها، وهي النقطة التي تلتقي عليها اليهودية معها- رغم ما بينهما من عداء وتناقض- فقد تجرّدت التوراة عن ذكر عالم الآخرة، والحياة الآخرة، والحث على الاستعداد لها، وصرف القوى والمواهب إلى نيل السعادة فيها، وإثارة الحنين والأشواق إلى نعمائها وطيباتها، والإشارة إلى قصر هذه الحياة الدنيا وتفاهتها، وذم حب العلو، والإفساد فيها، والتزهيد في زخارفها ومتاعها القليل، وحطامها الزائل، تجردت عن كل هذه المعاني تجردا يثير العجب، ولا يعقل عن الكتب السماوية المنزلة من الله،