وروحها وطبيعتها، فلا عجب إذا كان تاريخ اليهود تاريخ التنافس على المادة والنهامة للثروة، والكفاح للسيادة (السلالة) والكبرياء القومي، وقد تجلّى ذلك بوضوح في كل ما نسب إليهم من كتب دينية مقدسة، أو صدر عن أقلامهم وقرائحهم من أدب وشعر، وقصص وملاحم، ونبوات وكهانات، أو أثر عنهم من بطولات ومغامرات وحروب وثورات، أو عرف عنهم من إبداعات واختراعات، أو عزي إليهم من أفكار وفلسفات، فإن أندر شئ في كل ذلك، هو الرقة والتواضع، وهضم النفس وإنكار الذات، والاستهانة بالحياة الدنيا، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الآخرة، والرحمة بالإنسانية على اختلاف طبقاتها، وأجناسها وأوطانها.
ولذلك ثنى الله تبارك وتعالى الإنكار على عقيدة الشرك وعقيدة الابنية أو الوالدية التى تبنتها المسيحية، وتولت كبرها، والإنكار على عبادة هذه الحياة، واتخاذ دارها المحل والقرار، والانصراف إليها عن كل ما سواها، ونوه بقصر هذه الحياة، وتداعي هذا الأساس الذي تقوم عليه، فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً.
وأعاد هذا الإنكار والتشنيع على عبّاد الحياة الدنيا ومنكري الآخرة، أو الغافلين عنها، في أواخر السورة فقال: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
وهكذا أحاطت عقيدة الآخرة، وعقيدة الإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر هذا الكون، وقدرته المطلقة المسيطرة على كل شئ، بأول هذه السورة وآخرها، وبجميع جوانبها، وهي عقيدة نفسية، وعقلية، وطبيعية، تأباها المادية التي لا تعتمد إلا على الحس والمشاهدة والتجربة، والمنفعة العاجلة، واللذة البدنية، والسيادة القومية أو العنصرية، وتتنصل عنها وتحاربها بكل قوة ووسيلة، فجاءت هذه السورة تشتمل على مادة تستأصل جذور المادية التي قدر الله أن يكون المسيحيون أكبر مربيها ودعاتها، والمشرفين عليها، في رحلة التاريخ الطويلة، ثم يتولى قيادتها اليهود الذين حاربوا المسيح منذ أول عهده، ونافسوا المسيحية في جميع عهودها، وعلى أيديهم تبلغ هذه المادية ذروتها الأخيرة، وفي بقاياهم المشتتين ولأمثالهم يظهر الدجّال الذي يكون أعظم بطل من أبطال الكفر والإلحاد، والتدجيل والتلبيس، وقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن تلاوة هذه السورة، والمحافظة على أوائلها- أو خواتيمها- تعصم من فتنته، وهكذا كانت بين بداية هذه السورة ونهايتها مناسبة لطيفة لا تخفى على الناظر المتأمل، ولمجموع