يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسّه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوّق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوّق لذة التطوّع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى ..
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:
قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ.
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين ..
يا أَبَتِ .. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ .. فهو يحسّ ما أحسّه من قبل قلب أبيه. يحسّ أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب. ثم هو
الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا .. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ.
يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة. ويا لعظمة التسليم!
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ: