ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانا.
لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شئ والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هنا شئ آخر .. ليس هنا دم فاغر ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضى الهادئ المستشعر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد أدّيا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه ..
وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما ..
كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحقّقت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذّب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شئ. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلّياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جاوزوا الامتحان بنجاح.
وعرف الله إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أدّيا وحققا وصدقا:
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا