قد صدّقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنّه عن الله أو تعزّه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت النفس والحياة. وأنت- يا إبراهيم- قد فعلت. جدت بكل شئ. وبأعز شئ. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين.
فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدّت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل!
ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي تتبع ملّته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدّية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها .. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.*
فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله عقبا ونسبا إلى يوم الدين. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.