قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها، وهكذا نصر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم، وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرّنين في الأصفاد، ثم منّ عليه بأخذ الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرّت عينه ببلده- وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم- فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده، فبلّغوا عنه دين الله عزّ وجل، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جلّ وعلا، وفتحوا البلاد والرساتيق، والأقاليم والمدائن، والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل) ..
أقول: الذي يظهر من السياق في السورة أنّ النّصرة التي وقعت لموسى عليه السلام ولمؤمن آل فرعون تظهر في أخذ فرعون وجنده في البحر، وتسليط أنواع من العذاب الرباني عليهم، ثم تعذيبهم في القبر، ثم تعذيبهم يوم القيامة، فهذه مظاهر النصرة لموسى عليه السلام ومن آمن به، ومظاهر انتصار الله لرسله وللمؤمنين كثيرة فليستبشر المؤمنون، فإنّ في قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بشارة للمؤمنين إلى قيام الساعة بنصرة الله.
وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قال صاحب الظلال:
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان.
إن وعد الله قاطع جازم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... ..
بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذّبا مطرودا، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من