يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد .. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!.
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير. إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيّز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان. ولو
نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!.
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك- في منطق العقيدة- أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .. والحسين- رضوان الله عليه- وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في أرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين.
وكثير من غير المسلمين!.
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال.
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور ومن القيم. قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!.