للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصدّه عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن؛ وصدوا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أرى فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- هذه الرؤيا. وحدّث بها أصحابه- رضوان الله عليهم- فاستبشروا بها وفرحوا.

ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد، ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم. قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بالمدينة شهر رمضان، وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب؛ ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب؛ وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظّما له. قال:

وكان جابر بن عبد الله- فيما بلغني- يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.

قال الزهري: وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بعسفان (١) لقيه بشر بن سفيان الكعبي. فقال: يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل (٢)، قد لبسوا جلود النمور؛ وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم (٣). قال: فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب.

ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة (٤). ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم


(١) عسفان: موضع بين مكة والمدينة على مرحلتين من مكة.
(٢) العوذة: التي لم تلد، والمطافيل: ذوات الأطفال، وهذا يقتضي أن يكون النص العوذ والمطافيل.
(٣) كراع الغميم: دار أمام عسفان بثمانية أميال.
(٤) السالفة: صفحة العنق، يعني: أو أقتل. فإنها لا تنفرد إلا بالقتل.

<<  <  ج: ص:  >  >>