فقال: كل القرآن قد قرأت؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال: أهذا كهذ الشعر لا أبا لك؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود الرَّحْمنُ، وروى أبو عيسى الترمذي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم ورواه الحافظ أبو بكر البزار. وروى أبو جعفر بن جرير عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال:«ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال:«ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ * إلا قالت الجن: لا بشيء من نعم ربنا نكذب» ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد).
وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الرحمن:(هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ. إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة. في جميل صنعه، وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم ... وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين: الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء، في ساحة الوجود، على مشهد من كل موجود، مع تحديهما- إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله- تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ويجعل الكون كله معرضا لها، وساحة الآخرة كذلك.
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله، وفي إيقاع فواصلها ... تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير التوقف والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار ... الرحمن ... كلمة واحدة. مبتدأ مفردا ... الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة، وفي رنتها الإعلان، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن).