على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. ويعبر عنها بالهداية تارة. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد .. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك.
ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما.
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها. وتغليبه على استعداد الشر .. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ..
وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب.
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف. فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موجبات الإيمان. ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة .. وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه. وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام).
وبمناسبة قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال ابن كثير: (وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وقف ثم قال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها». وروى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم:
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها،