للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تضيع الذرية، ولولا حب الذهب والفضة، والأنعام والحرث، ما كان عمل، ولولا العمل ما قامت الحياة، ولكن هذه الشهوات تحتاج إلى أن توضع لها حدود حتى لا تطغى عن الحد الذي تحتاجه عمارة الدنيا؛ لأنها إذا طغت فلم تخضع لقيود أدت إلى عكس ما خلقت من أجله، ومن ثم أنزل الله كتبه لتقوم هذه الشئون ضمن الحدود السليمة الصحيحة.

وللآية صلة أخرى في السياق سنراها.

وفي الآيات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة يرفع الله همتنا إلى أن نكون طلاب آخرة، بتبيان ما أعده لأهل طاعته في جناته، كما بين متى نكون أهلا لذلك. يقول تعالى في هذه الآيات: قل يا محمد للناس أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها؟ جنات تخترق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة من العسل، واللبن، والخمر، والماء، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أعدها للمتقين، وجعلها لهم ماكثين فيها أبد الآباد، لا يبغون عنها حولا، ولهم فيها أزواج مطهرة من الدنس، والخبث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ومع هذا فإن لهم أن يحل الله عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا. ومن شأن الله- سبحانه- أنه بصير بعباده، يعطي كلا بحسب ما يستحق من العطاء، وقد بين أن هؤلاء إنما استحقوا (١) هذا كله بسبب كونهم من المتقين، ثم وصف هؤلاء المتقين، بأنهم يدعون الله طالبين غفرانه، والعتق من النار، وأنهم متصفون بالصبر، والصدق، والطاعة، والخضوع، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار.

وهذه الآيات الثلاث مرتبطة كذلك بموضوع المقطع، فكما أن عمارة الحياة الدنيا تحتاج إلى وحي من الله، فإن دخول الجنة والوصول إلى الآخرة يحتاج إلى وحي يبين للإنسان الطريق، فإذا اتضحت هذه المعاني، عرفنا الصلة بين هذا المقطع والآيات الأولى من سورة البقرة التي تصف المتقين، بأن القرآن هداهم، وأنهم يؤمنون بكل ما أنزل الله، ثم يختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بما بدأه به من إعلان وحدانيته وقيوميته، فيخبر الله- تعالى- في الآية الأخيرة أنه شهد، وكفى به شهيدا، وهو


(١) يلاحظ أن ابن كثير يستعمل كلمة (استحق) ولا يستعملها من باب أن لكل أحد حقا على الله وواجبا، وإنما من باب أن الله- عزّ وجل- أوجب على نفسه لخلقه، وهو موضوع مرتبط ببعض المصطلحات الكلامية؛ لذلك أشرنا إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>