مشهد من مشاهد يوم القيامة، إذ يحشر الكافرين والمشركين فيسألهم عن معبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها من دونه، ويعطونها صفات الألوهية وخصائصها وحقوقها، فما تكون حجتهم ومعذرتهم إلا أن يقسموا أنهم ما كانوا مشركين، كذبوا على الله في الدنيا، ويكذبون على الله في الآخرة، وفي كل من الحالين فإنهم لا يكذبون إلا على أنفسهم وإذ كان كذبهم كله- سواء في ذلك كذبهم على الله في الإشراك به في الدنيا، إلى كذبهم في الآخرة- لا قيمة له ولا نفع فيه فليلاقوا عاقبة هذا الكذب .. وهذا مظهر من مظاهر قهره الذي بدأ بذكره المقطع، أن يحشر الكافرين والمشركين إليه يوم القيامة ويجازيهم، ثمّ بيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّ من المشركين من يجئ ليسمع قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يستفيدون شيئا؛ لأن الله جعل على قلوبهم أغطية فلا يفقهون القرآن، وجعل في آذانهم صمما عن السماع النافع لهم، وذلك عقوبة لهم بما اجترحوه، وما اتصفوا به، وعقوبتهم أثر من آثار قهره كذلك، ثمّ إنّهم مهما رأوا من الآيات، والدّلالات، والحجج البينات، والبراهين، فإنهم لا يؤمنون بها؛ إذ لا فهم عندهم، ولا إنصاف، وعند المحاجّة والمناظرة يزعمون أنّ هذا القرآن مأخوذ من كتب الأوائل، ومنقول عنهم، يقولون هذا وهم لا يفهمون هذا القرآن ولا يعقلونه، ثم يزيدون في عتوّهم إذ ينهون الناس عن اتّباع الحق، وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والانقياد للقرآن، ويبتعدون هم عنه؛ فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع، وهم بهذا الصنيع لا يهلكون إلا أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم، وهم لا يشعرون، وبعد عرض حالهم هذا، يعرض الله مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وموقفا لهؤلاء المشركين الكافرين هناك، في مقابل موقفهم هذا، ومن ثم يذكر الله حالهم إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك يتمنّون أن يردّوا إلى الدار الدنيا؛ ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذّبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين؛ عندئذ يظهر ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر، والتكذيب، والمعاندة، وقد بيّن الله تعالى في هذا المقام أنهّم ما طلبوا العودة إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه؛ جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا؛ ليتخلصوا مما شاهدوا من النار. ولو أن الله ردّهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة. فهم كذبة في زعمهم أنهم لو عادوا إلى الدنيا لعملوا صالحا، بل لو أنهم أعيدوا لعادوا إلى كفرهم ولقولهم: أن لا حياة إلا الدنيا، وأنه لا معاد ولا بعث، وكما