أن ما يأتي ثانيا مبني على ما جاء أولا، وما يأتي ثالثا مبني على ما ورد ثانيا، كما يدل على أهمية التفصيل المتجدد والجديد. والمهم أن نعرف هنا أن التفصيل الأول لسورة البقرة يتم بانتهاء سورتي الأنفال وبراءة.
في عصرنا هذا تعتمد الدول ذات العقائد الخاصة نظرية غسيل المخ، وتعتمد وسائل التربية ومدارسها فكرة الإجمال، ثم التفصيل، وتقديم البدهيات على غيرها، والتدرج في التربية والتعليم، وكلها معان أوصلت إليها التجربة والاستقراء، فإن تجد القرآن يصنع النفس البشرية بالحق، من خلال البناء المتدرج تدرك شيئا من عظمة هذا القرآن، وشيئا من كماله وإعجازه.
في الدول الديكتاتورية ذات العقائد الخاصة تقوم عملية غسيل المخ على وضع الإنسان أو الشعب في ظروف صعبة تجعل عنده استعدادا لتقبل ما يلقى إليه، ثم تبدأ عملية الإلقاء المتكرر المتجدد، حتى تصاغ نفسية الفرد أو الشعب بالشكل الذي يريده الحاكم، وفي نظم التربية المعاصرة ينقل الإنسان من طور إلى طور أوسع منه حتى يكمل وفي الصورة الأولى تجد باطلا بربى عليه الإنسان، وفي الصورة الثانية نجد خطأ أو قصورا في تربية الإنسان، والقرآن وضع الإنسان في الظرف الذي ينبغي أن يكون فيه، ظرف العبودية لله، ثم أجمل وفصل وعرض الموضوع الواحد على طرائق شتى من العرض، وكرر الموضوع الواحد بشكل متجدد، وكل ذلك بما لا يشبه شيئا مما ألفه الناس وعرفوه، وكل ذلك بمستوى رفيع من البيان والإحاطة، فإذا ما وسع هذا القرآن مع هذا كل شئ. وإذا كان كل شئ فيه حقا، فإن هذا كله يدلنا على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كما هو عليه إلا إذا كان منزله رب السموات والأرض ومن فيهن.
*** إن سورتي الأنفال وبراءة تكملان بعضهما، ومن ثم نلاحظ أنه لم يفصل الصحابة بين السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم. والسورتان موضوعهما القتال والجهاد وما يتعلق به. وسنرى بأكثر من دليل أنهما تفصيل للآيات الثلاثة التي ذكرنا أرقامها من سورة البقرة.