للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول، ولا شك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن، والثاني: في الآراء، والحروب، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ.

وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام؛ لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما، والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا، لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل، والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص، وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: «الاختلاف رحمة»، فإن الرخص منها بلا شبهة، وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين، لأن جهة الخيرية تختلف باختلاف وجهة الرحمة، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده، والرحمة في الرخصة فيه وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم، فيكتفى في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا، وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير نقول إن الاتفاق مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد- وهو الصحيح- فالحق في نفس الأمر واحد، والناس كلهم مأمورون بطلبه، واتفاقهم عليه مطلوب، والاختلاف حينئذ منهي عنه، وإن عذر المخطئ، وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.

فقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران» وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد، وباتباع ما غلب على ظنه؛ فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق، ولا أن يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا: المراد بالاختلاف في

<<  <  ج: ص:  >  >>