فإن قلت: الأولى تقديم الكلاميات على سائر ما في "الجامع" لأنها الأصل وهو الأساس، والكل متفرع مبني عليه، فالوضع الطبعي أن تقدم مسائل أصول الكلام على مسائل أصول الفقه ثم هو على مسائل الفقه ونحوها من سائر العمليات. قلت: لعله من باب الترقي إرادة لختم الكتاب بالأشرف وختامه مسك.
ثم إنه قدم التوحيد على غيره لأنه أصل الأصول وهو معنى كلمة الشهادة التي هي شعار الإسلام. قالوا: صفات الله تعالى إما عدمية وإما وجودية أي: نفي للنقائص أو إثبات للكمالات، والأولى تسمى بصفات الجلال، والثانية بصفات الإكرام، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، وقدم العدمية على الوجودية لأن مقتضى العقل أن ينفى النقصان عن الشيء ثم يثبت له الكمال، يقال: التخلية مقدمة على التحلية وأشرف الجلاليات، ويقال لها: التنزيهات: نفي الشريك، يعني: التوحيد، ولهذا قدمه، وهو وإن كان أول الواجبات لكنه آخر ما تنحل إليه المقاصد. ثم الوجودية حصروها في صفات سبعة: الحياة، والإرادة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. والباقي - من صفات الرحمة والخلق ونحوها بتمامها - راجع إليها لا تخرج عنها.
وختم البخاري بصفة الكلام لأنه مدار الوحي وبه ثبتت الشرائع، ولهذا افتتح الكتاب ببدء الوحي فالانتهاء إلى ما منه الابتداء.
فإن قلت: ختْم الكتاب هو بيان الميزان؟ قلت: ذكره ثمة ليس مقصودًا بالذات بل هو لإرادة أن يكون آخر كلامه تسبيحًا وتحميدًا، كما أنه ذكر حديث النية في أول الكتاب إرادة لبيان إخلاصه فيه، ففيه الإشعار بما كان عليه مؤلفه في حالتيه أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا، جزاه اللّه خيرًا، "ك"(٢٥/ ٩٥ - ٩٦).