وقد أكرم الله هذه الأُمَّة بالحفظ والإسناد، فانتدب من أبنائها في القديم والحديث، من يحفظ عليها كتاب ربها وسنة نبيها، في الصدور والسطور، ويعتني بهما نقلًا وروايةً، جيلًا بعد جيل، في صيانة تامة من السقط والتحريف والتغيير.
ولئن كان لكلِّ أُمَّة ميزة تعتزُّ بها وتفخر، فإن الميزة التي ترفع بها هذه الأُمَّة راية العزِّ: ميزة الإسناد الذي عدَّه سلفنا الصالح أساسًا في تلقِّي الدين وحفظه على المسلمين، كما قال عبد الله بن المبارك فيما رواه عنه مسلم في مقدمة "صحيحه": "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
وليس الإسناد مقصودًا لمعنى في ذاته، بل لمعرفة أحوال النقَلة من الجرح والتعديل والتوثيق والتضعيف، للتوصل بذلك إلى تمييز الصحيح من السقيم في الأخبار، فتحصل الثقة بالأول وتبنى عليه الأحكام، وينبذ الثاني بالعراء فلا يلتفت إليه إلا للاعتبار به في بعض أحواله، وبهذا أصبح الحديث المسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلومًا من حيث الصحة والضعف، لدى أئمة هذا الفن المتخصصين به، من مجرد الاطلاع على إسناده ومعرفة رجاله.
وبالتزام الصحة في الرواية والإتقان في النقل، حُفظ القرآن الكريم بين دفَّتي المصحف، كما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودأب المسلمون على أن لا يكتفوا من أحد باستظهاره من المصحف، فيشهدوا له بالحفظ، حتى ينضم إلى ذلك التلقينُ والمشافهة، بالقراءة على شيخ مجاز، كلمةً كلمةً، قراءةً مسندةً من إحدى الروايات الثابتة في إحدى القراءات المشهورة المعتمدة، وكانوا يحذرون من الأخذ عمن اكتفى بالحفظ من المصحف،