ومن حسن نيته وكمال إخلاصه أنه بدأ كتاب "الجامع الصحيح" بالحديث الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، وكذلك اختتم كتابه بالحديث الذي رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، فبذلك أرشد الإمام البخاري إلى تصحيح الأهداف والأغراض، واستحضارِ النيات وتحسينها؛ لأن الأهداف والنيّات التي تَكمن في بناء الأبنية والأماكن الأثرية يكون فيها رياء وتفاخر عادة، ولكن يجب أن تكون خطتنا نزيهة فيها، وخالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.
ولد الإمام البخاري رحمه الله في "بخارى" في يوم الجمعة ١٣ شوّال المكرم سنة ١٩٤ هـ، ونشأ يتيمًا، وقام برحلة طويلة في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
كان من أوعية العلم، يتوقّد ذكاءً، لم يخلف بعده مثله في سَيَلان ذهنه وسرعة حفظه، وكان يقول:"صنفت كتاب "الصحيح" لست عشرة سنة، وخرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجةً". وهذه حقيقة اعترف بها الأعداء والأصدقاء بأن لا يوجد له مَثيل في أيّ كتاب بشري في أيّ أمة من الأُمم - أقبل عليه الناس درسًا وتدريسًا، شرحًا وتعليقًا، استدراكًا وتخريجًا، استنباطًا واستخراجًا، جزئيًّا وكلّيًّا -، وفي تاريخ العلم والحَضارة، عَبْر القرون والأجيال، وعَبْر الحدود والثغور.