وقال الدارقطني في سننه (٤٨٨): "والصّواب عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كان يقبّل وهو صائم".
وقد أطال في سننه (من رقم ٤٨٤ إلى ٥١٢) النَّفَسَ في تعليل هذا الحديث من جميع طرقه فراجعه إن شئت.
منها ما رواه من طريق الوليد بن صالح، حدّثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُقبل ثم يصلي ولا يتوضّأ. قال: "إن الوليد بن صالح وهم في قوله: عن عبد الكريم، إنّما هو حديث غالب (هو ابن عبيد الله وهو متروك كما قال).
ورواه الثوري، عن عبد الكريم، عن عطاء من قوله، وهو الصّواب" انتهى.
ثم ذكر الترمذيّ مذاهب الفقهاء فقال إثر حديث عائشة: وقد رُوي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعين. وهو قول سفيان الثوريّ وأهل الكوفة. قالوا: ليس في القبلة وضوء.
وقال مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق في القبلة وضوء، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، وإنّما ترك أصحابنا حديث عائشة في هذا لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد". ثم ذكر العلل التي سبق إيرادها.
قلت: قول جمهور أهل العلم بأن في القبلة وضوءًا فيه تفصيل، وهو أنّ القبلة قد تكون بشهوة، وقد تكون برحمة، فمن أوجب الوضوء قال: إن كانت ذلك بشهوة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعليه يحمل قول جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وابن مسعود وجماعة، والتلف من بعدهم مثل الزهريّ وزيد بن أسلم ومكحول ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي وغيرهم. ومن الفقهاء مالك وغيره من أهل المدينة.
والرواية الثانية عند الإمام أحمد لا تنقض الوضوء، ويحمل هذا إن كانت ذلك بدون شهوة، أو كانت ذلك رحمة، وبه قال جماعة من الصحابة: علي، وابن عباس، وجماعة من التابعين ومن بعدهم منهم: عطاء، وطاوس، والحسن، ومسروق، وهو قول الكوفيين أبي حنيفة وغيره.
والرواية الثالثة عند الإمام أحمد أنه ينقض الوضوء بكل حال، وهو مذهب الشّافعي.
ودليل الشافعي عموم قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: ٤٣] فجعل مجرد اللّمس ناقضًا للوضوء.
وحمل ابن عباس وغيره بأن المراد باللمس هنا كناية عن الجماع، فلا دليل فيه بنقض الوضوء بمجرد اللّمس الذي قد لا يسلم منه أحد، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين.
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما سئل عن لمس المرأة فذكر فيه ثلاثة مذاهب وقال: "والصحيح في المسألة أحد قولين: إما عدم النّقض مطلقًا، وإما النقض إذا كان بشهوة. وأما وجوب الوضوء من مجرد مسّ المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال. ولا يعرف هذا