قلت: جاء حديث النعمان بن بشير من أوجه كثيرة وبألفاظ متباينة، فذهب من لم يتفقه إلى وجود التعارض بين هذه الأحاديث، والصحيح أنه ليس هناك تعارض، وإنما الذي حصل هو رواية الحديث بالمعنى، فكل عبر بما فهم من الحديث، ولذا الأمر الذي لم يُختلف فيه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رفض الشهادة على جور، وإن كانوا اختلفوا في اللفظ الذي نطق به.
وكون القصة وقعت مرتين: الأولى: أن بشيرا نحل ابنه النعمان حديقة، وفي الثانية: غلاما، فهو بعيد؛ لأنه لا يعقل أن يصدر مثل هذا عن الصحابي بأن يذهب مرتين إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قضية واحدة وهو يرد عليه في كل مرة. فجعل ابن حبان أنه وقع نسخ في الحكم الأول بدون ذكر دليل واضح، وذهب غيره إلى تضعيف حديث أبي حريز، لأنه خالف جميع أصحاب الشعبي، فجعل النحل حديقة، وغيرهم قالوا: غلاما.
وذهب الآخرون إلى أن الإشهاد لم يقع في المرة الأولى، ولذا فإن بشيرا استرجع الحديقة، وإنما الإشهاد وقع في المرة الثانية، وذلك لما طلبت امرأته ذلك حتى لا يرجع مرة أخرى. واللَّه تعالى أعلم.
وقد قال بظاهر هذا الحديث كثير من السلف، منهم الإمام أحمد وإسحاق وأهل الظاهر، ويحكي أيضًا عن سفيان الثوري، فإنهم قالوا: لا يجوز التفاضل بين الأولاد في النحل والبر، فإن فعل ذلك لم ينفذ.
وخالفهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، فقالوا: التفضيل مكروه، فإن فعل ذلك نفذ، واستدلوا بفعل أبي بكر الصديق، ويقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيسرك أن يكونوا في البر سواء". وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: أشهد على هذا غيري".
والحق أنه ليس فيه إذن، بل فيه تحذير من عدم التسوية بين الأولاد مثل قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}[سورة فصلت: ٤٠]. ومثل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وغيرهما. انظر للمزيد "المنة الكبرى" (٥/ ٤٩٦).
[٩ - باب النهي عن الرجوع في هبته وصدقته]
• عن ابن عباس، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "العائد في هبته كالكلب يقيئ، ثم يعود في قيئه".
متفق عليه: رواه البخاري في الهبة (٢٥٨٩)، ومسلم في الهبات (١٦٢٢: ٨) كلاهما من حديث وهيب، حدثنا عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس فذكره.
• عن ابن عمر وابن عباس قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ينبغي لأحد أن يعطى عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطيه ولده، ومثل الذي يعطي العطية، ثم يرجع