وهؤلاء الزنادقةُ مِنْ أتباعِ عبدِ اللَّه بنِ سبأ، وأخبارُ عبدِ اللَّه بنِ سبأ شهيرةٌ في التواريخِ، وهو من غلاةِ الزنادقةِ، وليستْ له روايةٌ في كتبِ الحديثِ. وللَّه الحمد.
قيّض اللَّه رجالا في كل عصرٍ ومصرٍ لحفظ السنة
لقد أراد اللَّه سبحانه وتعالى حفظ سنة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقيّض لها في كل عصرٍ ومصر رجالا أتقياء صالحين، أفنوا أعمارهم في جمع السنة وحفظها، فميّزوا الصحيحَ من الضعيفِ، والطيبَ من الخبيثِ، وألَّفوا في ذلك مؤلفات نفيسة في تراجم الرواة وأحوالهم جرحًا وتعديلًا، بلغ عندي أكثر من ثلاثمائة وخمسين كتابًا إلى عصر الحافظ ابن حجر، كما ألَّفوا المسانيد والجوامع والسنن، وأنواعًا أخرى من كتب الحديث، ولم يأت القرن الخامس إلا وكانت سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها محفوظة في المدونات الكبيرة والصغيرة.
وهنا انتهى دور الرواية الذي عليه مدار صحة الحديث وضعفه، فمن جاء بعده بحديث ليس له أصول صحيحة، فيُنظر إليه بنظرة الغرابة.
ولذا عُدَّ الاشتغالُ بعلم الحديث، وتحقيق معرفة الصحيح من السقيم من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات تحقيقًا لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسَّكتم بهما، كتاب اللَّه، وسنّة نبيّه"(١). ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني أوتيتُ الكتاب ومثله معه". ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نضّرَ اللَّهُ امرأً سمع منَّا حديثًا فأدَّاه كما سمعه، فرُبَّ مبلّغٍ أوعي من سامعٍ". وسيأتي تخريجه بالتفصيل في موضعه.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة اللسان:"فإن خيرَ الأعمالِ الاشتغالُ بالعلم الديني، وأفضلُه وأعظمُه بركةً معرفةُ صحيحِ حديثِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من مدخولِه، ومنقطعِه من موصولِه، وسالِمه من معلولِه، ولما خصّ اللَّهُ هذه الأمةَ المحمديةَ بضبط حديث نبيها بالإسناد المأمون".
وكفا بهم شرفًا أنهم أكثر الناس صلاةً على حَبيبه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والاشتغالُ بسنته الشريفة، وتعظيمُها أعظم مرتبةً.
وقد سُئل الإمامُ أحمد هل اللَّه في الأرض أبدال؟ قال: نعم، قيل: من هم؟ قال: إنْ لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال، فما أعرف للَّه أبدالا.
(١) رواه مالك في "الموطأ" في كتاب القدر (٣) بلاغًا، وسيأتي تخريجه.