رجلًا كان في سفر، فولدتْ امرأته، فاحتبس لبنُها، فجعل يمصُّه ويمجُّه، فدخل حلْقَه، فأتى أبا موسى فقال: حرُمتْ عليك. قال: فأتى ابن مسعود فسأله فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إِلَّا ما أنبت اللحم، وأنشر العظْم" وفيه مع الجهالة انقطاع فإن أبا موسى الهلالي لم يدرك عبد الله بن مسعود، كما وقع فيه اضطراب فإن البعض زاد فيه عن ابن لعبد الله بن مسعود.
وقوله:"ما أنشر العظم" أي زاد في حجمه، فنشزه، وفي رواية:"أنشر" بالراء ومعناه شد العظم وقواه. والإنشاء بمعنى الأحياء في قوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس: ٢٢].
ومعناه أن الرضاعة التي تقع بها الحرمةُ هي ما كان في الصغر، والرضيعُ طفل يقوتُه اللبنُ ويسد جوعه، وأمّا ما كان منه بعد ذلك في الحال التي لا يسد جوعه اللبنُ، ولا يُشبعه إِلَّا الخبزُ واللحم، وما في معناهما من الثقل فلا حرمة له. أفاده الخطّابي.
قال ابن المنذر في الأوسط (٨/ ٥٥٨): "وأكثر أهل العلم غير قائلين بقصة سالم هذا، يحتجون في هذا بظاهر كتاب الله، وبالأخبار الثابتة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأخبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول عوام أهل العلم من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر، وغيرهم".
وقال: وأمّا ما احتجوا به من كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[سورة البقرة: ٢٣٣] فجعل الله تعالى تمام الرضاع حولين، ودلّ ذلك على أن لا حكم لما أرضعتْه المولود بعد الحولين. وثبتَت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الرضاعة من المجاعة ثمّ ذكر هذه الأخبار.
قلت: وعائشة أم المؤمنين كانت تروي كما ثبت في الصحيحين: "إنما الرضاعة من المجاعة"، ثمّ خالفت فأجازت رضاعة الكبير، فليس لنا إِلَّا أن نأخذ بما روت، ونجعل رأيها يخص بها لسبب من الأسباب. وقد نقل بعض أهل العلم أنها رجعت عن رأيها قبل موتها - والله أعلم - ولكن قال الزهري: وكانت عائشة تفتي بأنه يُحَرّمُ الرضاعُ بعد الفصال حتَّى ماتت كما سبق، فلعل رجوعها خفى على الزهري. فلا ينبغي إحداث قول جديد بتحريم رضاع الكبير بحجة المصلحة والحاجة، وهل يتصور رضاع الكبير بدون المصلحة والحاجة، فما الفائدة من قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرضاعة من المجاعة".
٦ - باب شهادة المُرضِعة
• عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء. فقالت: أرضعتُكما. فأتيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إني قد أرضعتُكما، وهي كاذبة، فأعرض، فأتيتُه من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال:"كيف بها وقد زعمتْ أنها قد أرضعتْكما دعْها عنك".
صحيح: رواه البخاريّ في النكاح (٥١٠٤) عن عليّ بن عبد الله، حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم،