والرواية الثانية عند مسلم من طريق وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
ورواه زهير، عن أبي الزبير، قال: سمعت سعيد بن جبير، وفيه: "وأن يكشفوا وجهه - حسبته قال: ورأسه".
ورواه إسرائيل عن منصور، عن سعيد بن جبير، وفيه: "لا تغطّوا وجهه" ولم يذكر الرّأس.
ورواه شعبة، قال: سمعت أبا بشر يحدّث عن سعيد بن جبير، وذكر فيه: "خارج رأسه". قال شعبة: ثم حدّثني بعد ذلك: "خارج رأسه ووجهه". وهذه الرّوايات كلّها في صحيح مسلم.
فالذي يظهر أنّ الخلاف كان على سعيد بن جبير نفسه، فمرة كان يجمع بين الرأس والوجه، وأخرى يذكر الرّأس وحده، وثالثة الوجه وحده، وهي كلّها صحيحة.
فلا وجه لإعلال هذه الزيادة كقول الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص ١٤٨): "ذكر الوجه تصحيف من الرواة؛ لإجماع الثقات الأثبات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته عنه: "ولا تغطّوا رأسه" وهو المحفوظ" وذلك من وجهين:
الأول: لقد ثبت ذكر الوجه في غير رواية عمرو بن دينار كما رأيت.
والثاني: كما قال الزيلعيّ في نصب الراية (٣/ ٢٨): "المرجع في ذلك إلى مسلم لا إلى الحاكم، فإنّ الحاكم كثير الأوهام، وأيضًا فالتصحيف إنّما يكون في الحروف المتشابهة، وأيّ مشابهة بين الوجه والرأس في الحروف؟ ! هذا على تقدير أن لا يذكر في الحديث غير الوجه، فكيف وقد جمع بينهما -أعني الرأس والوجه- والروايتان عند مسلم ... " إلى قال: "هذا بعيد من التصحيف".
وقول البيهقيّ (٣/ ٣٩٣): "وذكر الوجه غريب" قول غريب؛ ولذا تعقبه ابن التركماني بقوله: "قد صح النهي عن تغطيتهما، فجمعهما بعضهم، وأفرد بعضهم الرأس، وبعضهم الوجه، والكل صحيح، ولا وهم في شيء منه، وهذا أولي من تغليط مسلم". وكذلك انتقده الحافظ في الفتح (٨/ ٥٤) قائلا: "فيه نظر، فإن الحديث ظاهره الصحة"، ثم سرد ألفاظ مسلم في ذكر الوجه.
قلت: وقد أجمع العلماء سلفًا وخلفًا على تحريم المحرم تغطية رأسه لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يلبس العمامة ولا البرنس".
واختلفوا في تغطية وجهه، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية إلى ما في هذا الحديث من منع المحرم الذي مات من تخمير وجهه.
وكان ابن عمر يقول: "ما فوق الذقن من الرأس، فلا يخمره المحرم" رواه مالك في الحج (١٥).
وأما الإمام أحمد فعنده ثلاث روايات، الرواية الثانية: لا يغطي وجهه مستدلًا بحديث ابن عباس: "اغسلوه بما وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة مُلَبِّيًا".
هذه رواية ابن منصور، وإسماعيل بن سعيد الشالنجي كلاهما عن أحمد.