وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول:"لا أكره أحدًا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي وحتى يقضي الله عز وجل لي ولمن صحبني بما شاء الله" فلم يقبله أحد منهم، ولم يأت أحد من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به أترون أن رجلًا يصلحنا وقد فسدَ قومه ولفظوه، فكان ذلك مما ذخر الله عز وجل للأنصار وأكرمهم به.
فلما توفي أبو طالب ارتدَّ البلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد ما كان، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف يومئذ وهم إخوة: عبد يا ليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه.
فقال أحدهم: أنا أمرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط.
وقال الآخر: أعجز الله أن يرسل غيرك.
وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدًا، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفًا وحقًا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت أشر من أن أكلمك. وتهزأوا به وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، وكان أعدوها حتى أدموا رجليه.
فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل حبلة منه، وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دمًا فإذا في الحائط: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما الله ورسوله، فلما رأيا أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسًا وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب، فلما جاءه عداس، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أي أرض أنت يا عداس! " قال له عداس: أنا من نينوى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى" فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لا يحقر أحدًا أن يبلغه رسالة ربه - "أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى". فلما أخبره بما أوحى الله عز وجل من شأن يونس بن متى، خر عداس ساجدًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء.
فلما أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكنا، فلما أتاهما، قالا: ما شأنك سجدت لمحمد، وقبّلت قدميه، ولم نرك فعلته بأحد منا؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى: يونس بن متى، فضحكا به، وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة.