البصري. فاشتهر أمرهم في الآفاق، وألحق بعض أهل العلم الثلاثة الآخرين فصاروا عشرةً.
ثم أكثر القراء الآخذون عن هؤلاء في الديار الاسلامية لا يُحصى عددهم، وتسلسلت أسانيدهم إلى يومنا هذا، وهي ميزة للقرآن الكريم، ولم يحصل ذلك لأي كتاب من الكتب السماوية، والحكمة في ذلك إن اللَّه جعل هذا الكتاب منارا للهدى إلى يوم القيامة، وتكفل بحفظه من التحريف والتبديل.
وعلماء القراءة ألّفوا في القراءات كتبا نفيسة ومن أهمها: كتاب التذكرة لابن أبي غلبون الحلبي (ت ٣٩٩ هـ)، وكتاب التبصرة للقيرواني (ت ٤٣٧ هـ)، وكتاب التيسير لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (٤٤٤ هـ) وغيرهم. واشترطوا لقبول القراءات ثلاثة شروط وهي:
١ - أن يَصحَّ إسنادها إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
٢ - أن يستقيم وجهُها في اللغة العربية.
٣ - أن يوافق رسم مصحف الإمام؛ لأن المصحف العثماني كُتبَ على الوجه الذي يحتمل القراءات العامة، فالقراءات العشر المعروفة اليوم كلها يحتملُها الرسم العثماني.
فمتى فُقِدَ شرطٌ من هذه الثلاثة فهو شاذّ وإنْ صحَّ إسناده، مثل ما رواه البخاريّ في التفسير (٤٩٤٣)، ومسلم في صلاة المسافرين (٨٢٤: ٢٨٢) عن علقمة قال: دخلتُ في نفر من أصحاب عبد اللَّه الشأم فسمع بنا أبو الدّرداء فأتانا فقال: أفيكم من يقرأ؟ فقلنا: نعم قال: فأيكم أقرأ؟ فأشاروا إليّ فقال: اقرأ فقرأتُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} والذكر والأنثى قال: أنتَ سمعتَها مِنْ في صاحبك؟ قلتُ: نعم قال: وأنا سمعتُها من في النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهؤلاء يأبون علينا.
وفي لفظ: قال أبو الدّرداء: أشهد أني سمعتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ هكذا وهؤلاء يريدونني على أن أقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)} واللَّه لا أتابعهم.
ومثل حديث ابن مسعود قال: أقرأني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إني أنا الرزاق ذو القوة المتين. في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٨].
رواه أبو داود (٣٩٩٣)، والترمذي (٢٩٤٠)، وأحمد (٣٧٤١). وإسناده صحيح. قال الترمذيّ: "هذا حديث حسن صحيح".
فهذه القراءات -وإنْ صحَّ إسنادُها- شاذّة؛ لأنها تُخالِفُ القراءة العامّة المتداولة عند الصحابة الآخرين، كما أنه لم يحتملْها الرسمُ العثماني.
فلا يجوز لأحد أن يقرأ في صلاته نافلة أو مكتوبة بغير ما في المصحف "المجمع" عليه، بل قال مالك رحمه اللَّه فيمن قرأ في صلاة بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة مما يخالف المصحف: لم يُصلَّ وراءه، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشاذة، ولا يُصلّى خلف من يقرأ بها. البرهان في علوم القرآن (١/ ٣٣٣).