إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى عليه السلام غضبا شديدا؛ لأنه تناوله، وهو يعلم منزله من بني إسرائيل، وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى، إلا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى عليه السلام من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، ووكز موسى الفرعوني، فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)} [سورة القصص: ١٥]، ثم قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)} [سورة القصص: ١٦]، فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار، فأتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقك، ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله من شهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل أمس واليوم: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)} [سورة القصص: ١٨]، فنظر الإسرائيلي إلى موسى عليه السلام، بعدما قال له ما قال، فإذ هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعدما قال له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)} أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، وقال:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} وإنما قال له مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، وانطلق الفرعوني، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ}[سورة القصص: ١٩]، فأرسل فرعون الذباحين؛ ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون، يا ابن جبير؟ .
فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له علم إلا حسن ظنه بربه تعالى، فإنه قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [سورة القصص: ٢٢، ٢٣]، يعني بذلك حابستين عنهما، فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ . فقالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإنما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا، حتى كان أول الرعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى عليه السلام، فاستظل بشجرة، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)} [سورة القصص: ٢٤]، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه، {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)} [سورة القصص: ٢٥]، ليس