قلت: هذه من الصناعة الحديثية، وأمّا من فقه الحديث فالصحيح أنه مرفوع؛ لأن مثل هذا الحكم لا يمكن صدوره إِلَّا من الشارع، فمن نظر إلى صناعة الحديث رجّح الوقفَ، ومن نظر إلى فقه الحديث رجّح الرفعَ، وكان الإمام البخاريّ رحمه الله سبّاقًا في اختيار هذا المنهج، ولذا حكم على كثير من الأحاديث بالرفع مع أن الصناعة الحديثية تُرَجِّجُ جانب الوقف كما هو ظاهر من صنيع الإمام الدَّارقطنيّ في "الإلزامات والتتبع"، والنسائي في "السنن الكبرى والصغري".
وهذا مما تميّز به البخاريّ رحمه الله عن غيره، ثمّ نهج هذا المنهج من جاء بعده مثل الحاكم والنووي وابن كثير والحافظ ابن حجر وغيرهم.
وهذا مثال لاختلاف أنظار العلماء، وليس فيه ردُّ أحدٍ على أحدٍ، إنّما هو راجعٌ إلى أصولهم وضوابطهم.
• عن أبي هريرة، قال: كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين، فقام، فقمنا معه، فجعل لونه يتغير حتّى رعد كُمُّ قميصه، فقلنا: ما لك يا نبي الله؟ قال:"ما تسمعون ما أسمع؟ " قلنا: وما ذاك يا نبي الله؟ قال:"هذان رجلان يُعذَّبان في قبورهما عذابًا شديدًا في ذنب هين" قلنا: مِمَّ ذلك يا نبيَّ الله؟ قال:"كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه، ويمشي بينهم بالنميمة" فدعا بجريدتين من جرائد النخل، فجعل في كل قبر واحدة، قلنا: وهل ينفعهما ذلك يا رسول الله؟ قال:"نعم يخفف عنهما ما داما رَطْبَتَيْن".
صحيح: رواه ابن حبَّان (٨٢٤) قال: أخبرنا أبو عروبة، قال: حَدَّثَنَا محمد بن وهب بن أبي كريمة، قال: حَدَّثَنَا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، قال: حَدَّثَنِي زيد بن أبي أُنَيْسة، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة فذكر الحديث.
ورجاله ثقات، أبو عروبة هو الحسين بن محمد بن معشر الحراني حافظ مترجَم في "تذكرة الحفاظ"(٢/ ٧٧٤) وأبو عبد الرحيم هو: خالد بن يزيد، ويقال: ابن أبي يزيد الأموي مولاهم الحرانيّ، ثقة من رجال مسلم.
• عن أبي هريرة قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر فقال:"ائتوني بجريدتين" فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فقيل: يا نبي الله! أينفعُه ذلك؟ قال:"لن يزال يُخفَّف عنه بعض عذاب القبر ما كان فيهما نُدوٌّ".
صحيح: رواه أحمد (٩٦٨٦) عن محمد بن عبيد، عن يزيد -يعني ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة فذكره. ورواه البيهقي في إثبات عذاب القبر (١٣٦) من طريق ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن عبيد بإسناده، وإسناده صحيح.