قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [سورة النجم: ٨ - ٩] بأنه جبريل عليه السّلام فإنه دنا من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فتدلَّى أي فقرب منه، وقال بعضهم: فيه تقديم وتأخير أي تدلّى ودنا.
وأمّا ما رواه البخاريّ في التوحيد (٧٥١٧)، ومسلم في الإيمان (١٦٢) كلاهما من طريق شريك بن عبد اللَّه أنه قال: سمعت ابن مالك يقول (فذكر قصة الإسراء بطولها) وقال فيه: "حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّارُ ربُّ العزّة فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى" هذا لفظ البخاريّ، وأمّا مسلم فلم يسق لفظه كاملًا، وإنّما أحال على رواية ثابت البنانيّ وقال:"وقدَّم فيه شيئًا وأخّر، وزاد ونقص".
لقد فطن مسلمٌ رحمه اللَّه تعالى لما وقع من شريك بن عبد اللَّه مخالفة لجمهور أهل العلم الذين قالوا في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي جبريل عليه السلام كما سبق، فلم يذكر لفظه كاملًا.
وأمّا البخاريّ رحمه اللَّه فسانه كما سمعه ولم يشأ أن يحذف منه شيئًا. وقد قال أهل العلم: هذا مما أخطأ فيه شريك بن عبد اللَّه وهو ابن أبي نمر وصفه ابن حجر في "التقريب" بأنه "صدوق يخطئ".
وقال البيهقيّ في "الأسماء والصفات"(٢/ ٣٥٧) بعد إخراج هذا الحديث وعزوه للبخاريّ: "ورواه مسلم عن هارون بن سعيد الأيليّ عن ابن وهب، ولم يسق متنه، وأحال به على رواية ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، وليس في رواية ثابت عن أنس لفظ الدّنو والتدلي، ولا لفظ المكان، وروى حديث المعراج ابن شهاب الزهريّ عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، عن أبي ذر، وقتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة، ليس في حديث واحد منهما شيء من ذلك، وقد ذكر شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر في روايته هذه ما يستدل به على أنه لم يحفظ الحديث كما ينبغي له من نسيانه ما حفظه غيره، ومن مخالفته في مقامات الأنبياء الذين رآهم في السماء من هو أحفظ منه. وقال في آخر الحديث: "فاستيقظ وهو في المسجد"، ومعراج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان رؤية عين، وإنَّما شقّ صدره كان وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- بين النائم واليقظان. ثم إنّ هذه القصّة بطولها إنّما هي حكاية حكاها شريك عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه من تلقاء نفسه، لم يعزها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا رواها عنه، ولا أضافها إلى قوله، وقد خالفه فيما تفرّد به منها عبد اللَّه بن مسعود وعائشة وأبو هريرة رضي اللَّه عنهم، وهم أحفظ وأكبر وأكثر.
وروت عائشة وابن مسعود رضي اللَّه عنهما عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما دلّ على أنّ قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خُلق عليها" انتهى.
وقال في "دلائل النّبوة"(٢/ ٣٨٥): "وفي حديث شريك زيادة تفرّد بها على مذهب من زعم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى ربَّه عزّ وجلّ، وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل عليه السلام أصح".
قال ابن كثير في "تفسيره": "وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه اللَّه تعالى في هذه المسألة هو الحقّ".