وقال البغوي في شرح السنة (٤/ ٥٢٦): "إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بُيّن فيها ما نُسخَ، وما بقيَ، وكتبها لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقرأها عليه، وكان يُقرئ الناسَ بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولّاه عثمان نسخَ المصاحف.
إذا صحّ ما قلنا، فالنقول التي في كتب علوم القرآن بأن عثمان هو الذي رتّب السور غير صحيحة لأنها نقول متأخرة، لا مستند لها من الصحابة والتابعين.
وكونُ مصحف أُبيّ بن كعب وابن مسعود وغيرهما مخالفًا لترتيب مصحف عثمان لا يدلّ على أن ترتيب السور من اجتهاد عثمان؛ لأن هؤلاء كتبوا مصاحفهم كما تيسّر لهم، -فمثلًا كتب علي بن أبي طالب مصحفه على ترتيب النزول، فكان أوله "اقرأ" ثم "المدثر" ثم "ن" هكذا إلى آخر المكي ثم المدني- لأنه كله قرآن سواء سورة النساء قبل آل عمران أو بعدها، كما حذف بعضُهم بعضَ السور ظنًّا منهم أنه ليس من القرآن، وقد كان في مصاحفهم تفسير لبعض الآيات أيضًا، ومن الممكن أيضًا أنهم لم يطّلعوا على نسخة زيد بن ثابت التي كتبها لأبي بكر على العرضة الأخيرة؛ لأن أبي بن كعب وعبد اللَّه بن مسعود لم يكونا من اللجنة التي شكّلها عثمان رضي اللَّه عنه لنسخ المصحف.
الثالثة: وكثرت المصاحف في عهد عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فكان لعبد اللَّه بن مسعود مصحف يملي منه على أهل الكوفة، وكان لأبي بن كعب مصحف، ولعلي بن أبي طالب مصحف، ولعائشة مصحف، ولغيرهم من الصحابة مصاحف، يملون منها على أصحابهم.
وكان في هذه المصاحف اختلاف في بعض الأحرف لنزول القرآن على سبعة أحرف تيسيرا على المسلمين، فكان ذلك من دواعي أن يُؤحّد المصحف على حرف واحد لإزالة هذا الخلاف الواقع بين المسلمين.
فلما اشتدَّ هذا الخلاف، وخطّأ بعضُهم بعضًا، وتفاقم الأمر، وخُشيت الفتنة، جمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه المسلمين للتشاور في الأمر. وكان ذلك في حدود سنة خمس وعشرين.
قال ابن عبد البر في ترجمة زيد بن ثابت من الاستيعاب: "فلما اختلف الناس في القراءة زمن عثمان، واتفق رأيه ورأي الصحابة على أن يُرَدَّ القرآنُ إلى حرفٍ واحدٍ، وقع اختياره على حرف زيد (أي على النسخة التي كتبها زيدٌ لأبي بكر التي كانت عند حفصة)، فأمره أن يملي المصحف على قوم من قريش جمعهم إليه، فكتبوه على ما هو عليه اليوم بأيدي الناس، والأخبار بذلك متواترة المعنى، وإن اختلفت ألفاظها". انتهى.
ونُسِخَ في عهد عثمان عدةُ نسخ، اختلفت الروايات في تعيين عددها، أصح الروايات أنها خمسة، وأكثرها أنها كانت سبعة، وأرسلها عثمان رضي اللَّه عنه إلى ست مدن: مكة، والشام،