من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة. ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن، فضلا عن ولي، فضلا عن نبي، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين. من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم، وأنه بكى حتى رمدت عيناه، وأن يعقوب صارعه فصرعه، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا. وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله.
ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة، وعبدوا الأصنام، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة.
ثالثها: إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل.
رابعها: إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها:(هذه سنة لكم أبدا) وما جاء في القربان: (قربوا