أما التدين، فهو التمسك بعقيدة معينة، يلتزمها الإنسان في سلوكه، فلا يؤمن إلا بها، ولا يخضع إلا لها، ولا يأخذ إلا بتعاليمها، ولا يحيد عن سننها وهديها. ويتفاوت الناس في ذلك قوة وضعفا، حتى إذا ما بلغ الضعف غايته، عد ذلك خروجا عن الدين وتمردا عليه.
الدين والتدين كظاهرة اجتماعية:
وظاهرة الدين والتدين، وجدت في المجتمعات الإنسانية من أول وجود الإنسان، وبقيت إلى يومنا هذا، وستبقى بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا أردنا أن نعرف كيف بدأت هذه الظاهرة؟ وكيف تطورت؟ وإلى أي وضع انتهت؟ فلست أجد خيرا - في هذا الباب - من كلمة أنقلها عن رسالة التوحيد، للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لتنير أمامنا الطريق لمعرفة هذا كله، ولتكون ركيزة نعتمد عليها في تجلية هذا الموضوع وتوضيحه.
قال -رحمه الله- " كل إنسان - مهما علا فكره وقوي عقله، أو ضعفت فطنته وانحطت فطرته - يجد من نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته وقوة من أنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تصرفه وتصرف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرق إليها إرادة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر: فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات، لكثرة نفعها، أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة تتماثل في أفراد كل نوع، وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلها ".
" ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان، ونفذت البصائر، ارتفع الفكر وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمه المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود، غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعا، والرشد ضائعا ".
" اتفق الناس في الإذعان لما فاق قدرهم، وعلا متناول استطاعتهم، لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له اختلافا كان أشد أثرا في التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، مع اختلافهم في فهم النافع والضار لغلبة الشهوات عليهم ".