قلت: والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب.
فهذا منع منه جمهور العلماء، حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه، ولم يذكر ألفاظهم.
وروى أشهب بن مالك، في صاحب السوق يسعر على الجزارين، لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.
واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا فساد عليهم، قالوا: ولا يجبر الناس على البيع، إنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس.
وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه أيضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له يا رسول الله، سعر لنا فقال: بل ادع الله ثم جاء رجل فقال رسول الله سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (١)».
قالوا: ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعا: ظلم لهم، والظلم حرام.
وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟
(١) سنن أبو داود البيوع (٣٤٥٠)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٣٣٧).