المبحث الثالث: أثر المكتبة الفكري في شعوب غرب أوربا:
قبل الحديث عن الأثر الحضاري الذي تركته مكتبة الأمويين في شعوب غرب أوربا، أود أن أثير نقطة هامة كان لها الفضل الأكبر في هذا التأثير الحضاري، وقد أشار إليها كثير من المؤرخين المنصفين من الغرب، وهي سياسة التسامح الحكيمة والهادفة التي سار عليها الأمويون في الأندلس مع رعاياهم من النصارى واليهود، حيث لم يستثنوهم من تولي الوظائف العامة بما فيها العمل في قصر الخلافة ومكتبته الكبرى، فقد كانت تعيش طوائف مسيحية ويهودية كثيرة العدد في عاصمة الخلافة، تمارس طقوسها الدينية في حرية تامة، وينعمون بالأمن والرخاء في ظل حماية الدولة الإسلامية لهم، ويشاركون المسلمين في حياتهم العامة، فسرت إليهم العادات الإسلامية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية وآدابها، وكتبوا بها مؤلفاتهم العلمية، وشاركوا مشاركة فعالة في خدمة الكتب والحركة العلمية في الأندلس، فقد كان منهم مترجمون ونساخون ومجلدون، واقتنى الكثيرون منهم مكتبات كبرى أغلب كتبها باللغة العربية، ولعل هذه النعمة التي نعم بها هؤلاء المسيحيون الأسبان في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس، والتي شهد بها المطران " الفيرو القرطبي " alvaro de cordoba عندما أصبح مطران العاصمة، وكان متعصبا لبني جلدته حيث كتب يقول: ". . . من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين بديننا على دراسة الكتب المقدسة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها ممن كتبوا في اللغة اللاتينية؟ من منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبا باللغة العربية، يبحثون عن كتبها ويقتنونها، ويدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في رقة وأناقة. يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم نفسها؛ لأن الفصاحة العربية تسكرهم، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولة لأخيه مسلما عليه، وتستطيع أن تجد جمعا لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية.