إن هذا الموقف، من مثل ابن جرير، موقف عجيب وغريب، وقد جانب الصواب في الإنكار والطعن والرد للقراءات المتواترة، ونحن إذ لا نحكم عليه برده للقراءات، بأنه راد للقرآن ذاته، كما قال أحد المفسرين، فهذا ما لا يتصوره عاقل؛ فابن جرير هو إمام المفسرين بلا منازع، وهو خير مدافع عن القرآن، ولكن هذه هنة من هناته، وقد حكم العلماء، على كل من رد القراءات المتواترة، بأنه آثم، أيا كان في أي مكان وزمان، بل قال عنه ابن الجزري بأنه أول من ركب هذا المحظور. . . وقد أصابتني الحيرة في موقف ابن جرير، كما ذكرت، وازدادت حيرتي، فأخذت أفتش عن حلقة مفقودة في هذا الموضوع، كيف يرد ابن جرير قراءات متواترة؟ وكيف يرد قراءة ابن عامر، وهي متواترة؟ في حين أنني أجد في تفسيره ما يشير إلى إجلاله للقراء، ويرى أن إجماعهم على القراءة لا محيد عنه، ويرى أن قراءتهم هي القراءة، وغيرها لا يعتد به لمخالفته قراء الأمصار.
وقرأت، ثم قرأت؛ لأفتش عن هذه الحقيقة: هل القراءة التي ردها الطبري متواترة في نظره، ثم قام بعد ذلك بردها، فيكون قد ارتكب إثما محققا، قلت في نفسي: ما أظن ذلك، بل أعتقد خلاف ذلك؛ لأنني تتبعت موقف الطبري في القراءات، فوجدت إجلالا لها منه، فلا يحيد عن الصحيح منها، حسب نظره؛ لذا جزمت أن الطبري لم يحكم بتواترها، ثم ردها، بل هو موقن بضعفها، وهذا خطأ يمكن أن نحمله مسئولية التقصير فيه، وأجلت النظر في تفسيره، فلم أجد لقولي دليلا محسوسا، بل هو استنباط واستنتاج، ولكني جزمت أن في كتابه المفقود "الجامع"، في علم القراءات ما يفيد هذا، وأن فيه الأسرار الكامنة في موقفه من القراء السبعة، أصحاب القراءات المتواترة؛ إذ هم متقدمون عليه، وفيه السر الكامن في طعنه لقراءات ابن عامر بالذات.
"أقول جزمت أن السر كامن في كتابه المفقود؛ لأنني تتبعت تفسيره فلم أجد لهذه الظاهرة تفسيرا"
وأنقذني الله من حيرة طالت ووجدت ضالتي المنشودة، فيما نقله السخاوي عنه، وما أظن أن ما نقله إلا أنه اطلع على كتاب الطبري الجامع في