تستطيع بعد أن قدمنا الكثير من النماذج لشعر كعب والتي أردنا بها أن نضع ذلك الشاعر في المكان الملائم لتلك الشاعرية، تستطيع عندئذ أن تدرك «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إليه كعب لأول مرة في الكعبة فقال: كعب الشاعر؟» فقضى له بالشاعرية لم يكن ليقضي بذلك لولا أنه بلغه من شعره قبل إسلامه ما رآه أهلا للحكم بأنه الشاعر، وحسبه شهادة الرسول ومع هذا فتلك النماذج بين يديك ودون التأثر بحكم تستطيع أن تقرأ في دقة وتمحيص لتخرج كما خرجنا بالحكم له بأنه مصور دقيق يتخذ من الكلمات المناسبة مادة للصورة، وتلك صورة لجيش المشركين وقوامه ثلاثة آلاف سوى الأحابيش يرى الشاعر في ذلك العدد العظيم، والعدد التي يموج فيها من الدروع والسيوف والحراب وكلها يلمع تحت أضواء الشمس ما يشبه البحر المائج فيقول:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش فيهم حاسر ومقنع
فيكشف بذلك عن صورة تصطخب فيها الكثرة والحركة واللون، وفي وسط الموج المتقلب صورة أشبهتها صورة الأحابيش وهم بين حاسر تجلى سواده الفاحم ومقنع ستر سواده بقناع أبيض، وقدم في نفس القصيدة صورة السهام وهي تقع تارة بأبدان الرجال وتارة لا تصيب الهدف فتنطلق في الحجارة اللينة ترعد أصواتها في قوله:
تصوب بأبدان الرجال وتارة ... تمر بأعراض البصار تقعقع
ويقدم صورة للخيل تسبح في الفضاء كأنها جراد ماجته ريح الصبا الباردة هنا وهناك فهو يذهب ويجيء، وهكذا تكون صورة الخيل حين يكر بها الفرسان حينا ثم يرجعون ليهتبلوا فرصة للكر، فهي كذلك تتريع وتجيء وتذهب وذلك في قوله:
وخيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا في قرة يتريع