للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويقدم في نفس القصيدة صورة للصحاري والجبال وكأن سوادها يتراءى من البعد كغبار ساكن منقطع وذلك في قوله:

صحار وأعلام كأن قتامها ... من البعد فقع هامد متقطع

* * *

وإن: شاعرنا هذا صادق كل الصدق في التصوير، فهو ابن بيئته ترجم كل ما ألهمته له البيئة في صور كأنها لوحات مصور تفنن في إضفاء الألوان والظلال عليها فعاشت على الأجيال يرى فيها المسلمون أمجادهم ويرى فيها العرب صور البادية في صحاراها وأعلامها وعينها وآرامها ونعامها، تلك البادية التي أنجبته، وكأننا ونحن نردد شعر كعب نعيش معه في عصره، ونلحظ بأبصارنا روائع المشاهد التي ألهمته الصور. وكأننا نرى صورة سلع والعريض والصماد، وحدائق النخيل التي تروى بالنضح والآبار الضيقة التي حفرت من عهد عاد، وهي ثابتة دائمة يعلو فيها نهر المرار، وكأننا نرى الغاب والبردي الغليظ الصوت الذي اصفر للحصاد، كأننا نرى ذلك كله حين نقرأ له:

ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد

نواضح في الحروب مدربات ... وخوص ثقبت من عهد عاد

رواكد يزخر المرار فيها ... فليس بالجمام ولا الثماد

كأن الغاب والبردي فيها ... أجش إذا تبقع للحصاد

* سلع والصماد: جبلان * العريض: واد * النواضح: النخيل التي تسقى بالنضح * الخوص: الآبار * المرار: نهر، الجمام جمع جمة وهي البئر الكثيرة الماء * والثماد: الماء القليل: أجش: عالي الصوت، تبقع: اصفر.

* * *

وليس: ثمت من شاعر عربي جاهلي أو مخضرم لم يتحدث عن الخيل؛ لأنها العماد الثاني لذلك المجتمع الذي عاش في جاهليته وصدر إسلامه، بين غبار المعارك الذي لا يخمد إلا ليشتعل، ومن ثم اعتمدوا على الخيل في تلك الحروب، واعتمادهم ذلك دعا شعراءهم إلى الحديث عنها في أشعارهم كسلاح هام من أسلحة القتال أو كعدة من عدده؛ ولأننا قلنا إن شاعرنا ابن بيئته المصور المعبر عنها نرى أنه لابد قبل أن نختتم الحديث عنه أن نقدم صورة للخيل في شعره: قال في قصيدة مطلعها:

أبقى لنا حدث الحروب بقية ... من خير نحلة ربنا الوهاب