للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد

ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.

على أنه فضلا عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة، كالنهي عن صفقتين في صفقة - وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر - وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.

ونطالع هنا صفحة من المبسوط، ترددت في كتب كثيرة، نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة، وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد. وبعضها يسقط الشرط والعقد معا.

قال السرخسي في المبسوط (جزء ١٣ ص ١٣): " حكى عبد الوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال باطل. فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال البيع جائز والشرط باطل. فدخلت على ابن شبرمة وسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته. فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط». فدخلت على ابن أبي ليلى فقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال صلوات الله عليه وسلامه: «اشتري واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق (١)»، ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق (٢)» فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهم- «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه ناقة في بعض الغزوات وشرط له ظهرها إلى المدينة».

فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة، ولا بد من التوفيق بينها، وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد لا سيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف. فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه المسألة، ويدع الأحاديث الأخرى؟


(١) صحيح البخاري البيوع (٢١٦٨)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥١٩).
(٢) صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٥٢١)، مسند أحمد بن حنبل (٦/ ٢١٣)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥١٩).