للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كان في بغداد أيام المأمون تيارات ثقافية متضادة: منها ما كان عليه السلف الصالح من أهل السنة والجماعة الممثل في حلقات أهل الحديث والفقهاء وغيرهم ممن يرجعون إلى النصوص الشرعية. ويثبتون لله ما أثبته لنفسه وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تأويل ولا تعطيل ومن أبرز هؤلاء: الإمام أحمد ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي وغيرهم. ومنها تيار المعتزلة القائلين بخلق القرآن وتأويل آيات الصفات وغير ذلك مما هو معروف من مذهبهم: كالقول بالعدل والتوحيد والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكان الرشيد يقاوم القول بخلق القرآن فلم يجرؤ أحد عليه مدة حياته كما روي عن محمد بن نوح قال: سمعت هارون الرشيد يقول: بلغني أن بشرا المريسي زعم أن القرآن مخلوق، علي إن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط، فلما مات الرشيد وتولى الأمين أراد المعتزلة حمله على ذلك فأبى.

فلما تولى المأمون الخلافة، وكان يميل إلى المعتزلة ويقربهم وكان أستاذه أبو الهذيل العلاف من زعماء المعتزلة وكذلك قاضيه أحمد بن أبي دؤاد فأشار عليه ابن أبي دؤاد بإظهار القول بخلق القرآن، فأظهر القول بذلك عام ٢١٢ هـ. فكان المأمون يناظر من يغشى مجلسه في ذلك ولكنه لم يلزم بذلك أحدا بل ترك الناس أحرارا فيما يذهبون إليه، فلما كان ٢١٨ هـ رأى المأمون حمل الناس وخصوصا العلماء والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم؛ وكان المأمون آنذاك في الرقة فأرسل إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم وهو صاحب الشرطة ببغداد أن يجمع من بحضرته من القضاة ويمتحنهم فيما يقولون ويعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، ويعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله بمن لا يقول بهذا القول وكان ذلك في ربيع الأول من عام ٢١٨ هـ.

فثار العلماء حين سمعوا كتاب المأمون إلى نائبه في بغداد وقال واحد منهم: لقيت ثمانمائة شيخ ونيفا وسبعين فما رأيت أحدا يقول بهذه المقالة - يعني خلق القرآن - وقد حبس وعذب وقتل في هذه المحنة خلائق