لا يحصون كثرة كما يراه القارئ المتتبع لتلك الحقبة من التاريخ، وصارت هذه المحنة هي الشغل الشاغل للدولة والناس خاصتهم وعامتهم وأصبحت حديث مجالسهم وأنديتهم وحاضرتهم وباديتهم في العراق وغيره وقام الجدل فيها بين العلماء، ووقع امتحان الأمراء للعلماء والقضاة والفقهاء والمحدثين في مصر والشام وفارس وغيرها حتى تناول الإمام البخاري وشيوخه الأجلة الأفذاذ: يحيى بن معين وعلي بن المديني ويزيد بن هارون وزهير بن حرب وغيرهم من الأئمة المجمع على جلالتهم وإمامتهم في حفظ السنة المطهرة وعلومها.
وأرسل المأمون لصاحب الشرطة في بغداد بأن يوافيه بجواب من امتحن منهم فوافاه بجوابهم وإذا هو يتضمن إنكار هذه المقالة والتشنيع على من قال بها فلم يقتنع المأمون بذلك، فبعث إليه بكتاب ثان يأمره فيه بإشخاص سبعة من المحدثين المشهورين في بغداد أو ثمانية وهم -: محمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو مسلم ويحيى بن معين وزهير بن حرب وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن إبراهيم الدورقي. لكي يمتحنهم وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل. إلا أن ابن أبي دؤاد حذف اسم الإمام أحمد من القائمة لمعرفته بصلابته وشدته في هذا الأمر.
* * *
ثم أمر المأمون بعد ذلك بحمل الإمام أحمد ومحمد بن نوح إليه في طرسوس فحملا إليه بأغلالهما فأما محمد بن نوح فمات في أثناء الطريق قبل أن يصل. وأما الإمام أحمد ومرافقوه فبلغهم وفاة المأمون قبل وصولهم فعادوا إلى بغداد، وألقي الإمام أحمد في الحبس. ويقال: إن أحمد دعا على المأمون وكانت وفاة المأمون في عام ٢١٨.
ثم تولى الخلافة المعتصم، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد والاستمرار بالقول بخلق القرآن وأخذ الناس بذلك. وكان أحمد في السجن فاستحضره من السجن، وعقد له مجلسا مع ابن أبي دؤاد وغيره؛ وجعلوا يناقشونه في خلق القرآن، وأحمد يستدل عليه بالنصوص الواردة. ويقول لهم: أعطوني دليلا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء، وأمر المعتصم برده إلى السجن. وفي اليوم التالي أحضر من السجن، وعقد المجلس وكان موقفه رائعا جليلا كموقفه في الأمس ورغم المحاولات والمناقشات صمم الإمام أحمد على كلامه، وفشل القوم كفشلهم بالأمس. وانفض الاجتماع، ورد الإمام أحمد إلى السجن، وفي اليوم الثالث أعيد انعقاد المجلس، وأحضر الإمام أحمد من السجن وأعيدت المناقشة. وكان المعتصم عند عقد مجلس المناظرة قد بسط بمجلسه بساطا، ونصب كرسيا جلس عليه وازدحم الناس إذ ذاك كازدحامهم أيام الأعياد، وكان مما دار بينهم أن قال للإمام أحمد: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}(١).