الثاني: الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به
لما كان علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين، وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة، ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة، ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا وثق الناس بفتواهم، واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم، ورضوا بحكمهم فيما شجر بينهم من نزاع في المعاملات، وبذلك انحلت مشاكلهم، ولم تداخلهم الريب والظنون، ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام، في تدوين أحكام تختار ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع والفصل على ضوئها في الخصومات.
ولما ضعفت القريحة، وقصر النظر، وبعدت شقة الخلاف بين العلماء، وكثرت آراؤهم، وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا، وجدت الريبة في الأحكام، والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس، ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات، يرجع إليها القضاة في أحكامهما ويلزم الحكم بمقتضاها منعا للاضطراب في الأحكام، وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية، وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها، وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في