الشيخ الإمام الصالح القدوة، زاهد وقته أبو محمد، عدي بن صخر الشامي، وقيل: عدي بن مسافر -وهذا أشهر- بن إسماعيل بن موسى الشامي، ثم الهكاري مسكنا.
قال الحافظ عبد القادر: ساح سنين كثيرة، وصحب المشايخ، وجاهد أنواعا من المجاهدات، ثم إنه سكن بعض جبال الموصل في موضع ليس به أنيس، ثم آنس الله تلك المواضع به، وعمرها ببركاته، حتى صار لا يخاف أحد بها بعد قطع السبل، وارتد جماعة من مفسدي الأكراد ببركاته، وعمر حتى انتفع به خلق، وانتشر ذكره. وكان معلما للخير، ناصحا متشرعا، شديدا في الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، عاش قريبا من ثمانين سنة، ما بلغنا أنه باع شيئا ولا اشترى، ولا تلبس بشيء من أمر الدنيا، كانت له غليلة يزرعها بالقدوم في الجبل، ويحصدها، ويتقوت، وكان يزرع القطن، ويكتسي منه، ولا يأكل من مال أحد شيئا، وكانت له أوقات لا يرى فيها محافظة على أوراده، وقد طفت معه أياما في سواد الموصل، فكان يصلي معنا العشاء، ثم لا نراه إلى الصبح.
ورأيته إذا أقبل إلى قرية يتلقاه أهلها من قبل أن يسمعوا كلامه تائبين رجالهم ونساؤهم إلا من شاء الله منهم، ولقد أتينا معه على دير رهبان، فتلقانا منهم راهبان، فكشفا رأسيهما، وقبلا رجليه، وقالا: ادع لنا فما نحن إلا في بركاتك، وأخرجا طبقا فيه خبز وعسل، فأكل الجماعة.
وخرجت إلى زيارة الشيخ أول مرة، فأخذ يحادثنا، ويسأل الجماعة، ويوانسهم، وقال: رأيت البارحة في النوم كأننا في الجنة ونحن ينزل علينا شيء كالبرد. ثم قال: الرحمة، فنظرت إلى فوق رأسي، فرأيت ناسا، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: أهل السنة والصيت للحنابلة، وسمعت شخصا يقول له: يا شيخ، لا بأس بمداراة الفاسق. فقال: لا يا أخي، دين مكتوم دين ميشوم.