للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دفع فرية ابتكار المستشرقين لصناعة التوثيق العلمي]

يظن كثير من المثقفين - لا سيما المثقفين ثقافة غربية - أن صناعة التوثيق العلمي من ابتكار المستشرقين؛ فإنك قلما تجد عملا من أعمالهم العلمية خاليا من التوثيق والتحقيق الجاد.

وما سبب هذا الظن إلا قصور اطلاع مثقفينا على تراثهم، وشغف كثير منهم بكل ما جاء من الغرب، وتصديقهم بكل ما يزعمون أنه من مبتكراتهم دون تمحيص، ولجهلهم بأن توثيق النصوص ليس أمرا جديدا على أمتنا، بل هو سمة من سماتها منذ صدرها الأول.

وقد أحس العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - بهوس أولئك بكل ما جاء عن الغرب؛ من تصحيح الكتب، وتوثيقها، وعمل الفهارس لها، وهاله تمجيدهم للأجنبي، والإشادة بذكرهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي يتقلدونه ويدافعون عنه، إذ رأوهم أتقنوا صناعة توثيق وتصحيح الكتب. فظنوا أنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في التفسير والحديث والفقه.

فانبرى- رحمه الله تعالى - للرد عليهم في مقدمته الرائعة لسنن الترمذي، ونقل نصوصا كثيرة من مقدمة ابن الصلاح المتوفى سنة ٦٤٣هـ تبين قواعد المحدثين في تصحيح وتوثيق النصوص، مفصلة تفصيلا دقيقا لم يسبق إليه. وقد حصل هذا في وقت لم تكن المطابع قد وجدت بعد - ولو كانت لديهم لأتوا بالعجب العجاب في ذلك (١) مما يدل دلالة قاطعة على حيازة قصب السبق في هذا المجال لعلماء المسلمين قبل قرون متطاولة، ويدفع أصلا فرية جهل المسلمين بهذه الصناعة، ونسبة ابتكارها للأجنبي.


(١) مقدمة سنن الترمذي ١/ ١٩ - ٢٢ بتصرف، وانظر مقدمة ابن الصلاح من ص ٨٧ إلى ص ١٠٢.