ثالثا: توفيق العلماء بين اختلاف الروايات في شأن تدوين السنة:
لقد وفق الله سبحانه وتعالى كثيرا من العلماء إلى فهم الروايات التي وردت في شأن النهي عن كتابة السنة والروايات التي وردت في الإذن بكتابتها، مما جعل هذا الأمر مفهوما لدى كثير من المسلمين، وسوف أقوم هنا بإيراد أقوال بعض العلماء في هذا الشأن لكي يزداد الأمر وضوحا:
جاء في مختصر سنن أبي داود من قول ابن القيم رحمه الله ما يلي: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، فإنه صلى الله عليه وسلم، قال في غزاة الفتح: «اكتبوا لأبي شاة (١)» يعني خطبته التي سأل أبو شاة كتابتها " وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمح وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح والحمد لله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته: ائتوني باللوح والدواة والكتف؛ لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا - وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها، وكتبه في الصدقات معروفة. . . وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة.
وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة خشية الالتباس، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها. . . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان
(١) أخرجه الترمذي في أبواب العلم، ما جاء في كتابة العلم ١/ ١٣٥ وقال: حديث حسن صحيح.