للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولعل في شهادة هذا القس المتعصب ما يقيم دليلا قويا شهد به أعداء الإسلام، على ما تتميز به الحضارة الإسلامية من طابع إنساني رفيع، فهي تكفل للإنسان إنسانيته مهما كان جنسه ودينه، ولا تسلبه حقوقه الإنسانية في طلب العلم والتعلم، وفي الوقت الذي فتح فيه الأمويون أبواب مكتباتهم وجامعاتهم العلمية أمام كل طالب علم، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، نرى أبناء المسلمين اليوم يعانون كثيرا من الأزمات في طلب العلم وتحصيله، حيث تقوم بعض المؤسسات العلمية في الغرب بحبس الكثير من النتائج العلمية ولا سيما في مجالات العلم والتكنولوجيا، وتناسى هؤلاء القوم أنهم تعلموا على أيدي علماء بررة، لا يكتمون علما ولا يحبسون أسراره عن أحد عملا بقول نبي الإسلام - صلوات الله عليه: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (١)»، (٢). فشتان إذن بين حضارتين: حضارة ترى العلم فرض كفاية إن لم يوجد في الأمة من يقوم به أثمت الأمة جميعها فلا تحول بينه وبين طلابه من أجل إسعاد البشرية، وحضارة تضن به وتقصره على أبنائها من أجل السيطرة والاستعلاء.

ولم يقتصر التأثير الفكري على نصارى أهل الأندلس، بل امتد ليعم أثره شعوب غرب أوربا قاطبة، وهذه حقيقة لا مراء فيها، فتشير الروايات إلى تأثر الإيطاليين والألمان والفرنسيين بمؤثرات الفكر الإسلامي عن طريق صقلية والأندلس إبان القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.

فقد نقل شاباط بن إبراهيم، وكان يهوديا، علوم الطب من (بالرمو) عاصمة صقلية إلى شبه الجزيرة الإيطالية، وفي سنة ٩٥٣ م بعث الإمبراطور أوتو الكبير " جان غورتز " في بعثة سياسية إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر في الأندلس، وقد مكث فيها ثلاث سنوات تعلم أثناءها اللغة العربية، وعندما رجع إلى ألمانيا حمل معه مجموعة كبيرة من الكتب العربية، ويرجح الدكتور محمد ماهر حمادة أن بعضها كان كتبا علمية، مستدلا على ذلك بالازدهار الملحوظ في دراسة العلوم خلال القرن الحادي عشر (٣).


(١) سنن الترمذي العلم (٢٦٤٩)، سنن أبو داود العلم (٣٦٥٨)، سنن ابن ماجه المقدمة (٢٦١)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٣٤٤).
(٢) رواه أبو داود والترمذي.
(٣) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية ١٩٧٨ ص ٢١٢.