للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح من تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل - مثلا - من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه - مع ذلك الشعور - عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده ".

" أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه ".

" الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلا مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمر ما لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسر عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين ".

" من ذلك الضعف قيد إلى هداه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته. . فأقام (الله) (١) له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك - زيادة في الإقناع - بآيات باهرات، تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل، فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الأذهان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون (٢).

* * *


(١) زدنا على النص لفظ الجلالة ليستقيم الكلام بعد حذف بعض عبارات رأينا إمكان الاستغناء عنها.
(٢) رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص ٨٠ - ٨٣.