وأول ما يذكر في هذا الصدد هو أن المبتعث مهاجر يفارق قوما ألفهم وألف مشاربهم على تنوعها، إلي أقوام لا عهد له بهم إلا من خلال ما يقرؤه عنهم وما يشاهده من ألوان حياتهم، عن طريق المنشورات ووسائل الإعلام المنظورة والمسموعة. . . ومهما يكن فللإقامة بين ظهراني هؤلاء الأقوام طوال سني الدراسة أثره الخاص الذي يختلف عن كل ما عرفه عنهم من قبل. . وقد أكدت تجاربنا في هذا المضمار أن تغيرا كبيرا سيعتري شخصية المبتعث فيفقد الكثير من خصائصها الأولى، ليخلي مكانها للكثير من خصائص البيئة الجديدة، حتى إذا عاد إلى أهله عاد شيئا جديدا حائرا بين الماضي والحاضر، لا يجد سبيلا للتخلص من موحيات البيئة الغربية، ولا قدرة على الانسلاخ التام من هويته الموروثة.
ولقد كتبت في أحد الفصول من مذكراتي خبر ذلك الطالب الذي كنت أحسن الظن بتصوراته الإسلامية أثناء دراسته الثانوية بطرطوس، ثم تخرج وغاب عن عيني مدة دراسته العسكرية في فرنسا، فلما عاد من رحلته تلك عجلت لزيارته، وكان مما ألقيته عليه من الاستفسارات قولي له: كيف كانت انطباعاتك وأنت تطأ أرض وطنك بعد أربع سنوات من الغربة؟ فكان جوابه العفوي (كانت انطباعاتي حزينة؛ لأني وجدت المرأة المسلمة لا تزال حبيسة التقاليد التي تحول بينها وبين السباحة المختلطة).
وأنا لا أذكر هذا المشهد لاتهام مبتعثينا كلهم بالانحدار إلي هذا الحضيض. . . معاذ الله، فأنا أعرف بينهم شبابا عادوا خيرا منهم يوم ذهابهم، ولكنهم قلة لا يكادون يظهرون بجانب الكثرة الغالبة، وقد أسلفت مثل التفاحة الفاسدة وآثارها في إفساد الكثير، فعلى هذا المثل أعرض لذكر هؤلاء الأحبة الضائعين المضيعين.
ومن العجائب، وما أكثر العجائب في حياتنا. . . أن المؤتمرات التي تعقد في ديار المسلمين تكاد تفوت الإحصاء، وهي تكاد تتناول كل شيء، وليس بينها واحد - فيما أذكر - خصص لتقييم نتائج هذا الابتعاث في وجودنا