وأكثرهم عملا بهم، ولم يلزموا المستشير أن يعمل بما أشير به عليه، ولم تتعطل الشورى، من ذلك أن عمر أشار على أبي بكر رضي الله عنهما أن يفاوت بين الناس في العطاء من بيت المال فيعطي كلا منهم حسب درجته ونصرته للإسلام وسبقه إليه، فأبى أبو بكر إلا أن يسوي بينهم في العطاء لاختلاف نظرهما في مقتضى العطاء. ومن ذلك ما أشار به الصحابة - وهم كثرة- على أبي بكر بترك قتال المرتدين ومانعي الزكاة فأبى إلا أن يقاتلهم ومضى فيما عزم عليه، وكان خيرا للمسلمين من رأي مخالفيه.
ومن ذلك أن عمر استشار الصحابة في دخول أرض علموا أن بها طاعونا وعدوله عن الدخول فيها ثم خالف مشورتهم وعدل عن الدخول فيها، وهم كثرة، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبره بما حفظه في ذلك من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيه تأييد لرأي عمر رضي الله عنه. وبالجملة فالأمر كما تقدم من أن الشورى ليست ملزمة، ولا حرج على الواحد في مخالفة الكثرة والعمل بمقتضى اجتهاده، بل هذا هو الواجب، وأصول الشريعة تشهد لصحته.
ولقائل يقول: إن ما ذكر في المناقشة إنما ينطبق على المجتهد؛ لأن له قولا أداه إليه اجتهاده واعتقد صحته، أما المقلد المحض فلا رأي له وهو لعجزه عن استنباط الأحكام مخير في اتباع إمام من الأئمة المجتهدين، فمثل هذا قد يقال بأن إمام المسلمين له أن يلزمه إذا تولى القضاء أن يحكم بمذهب أو قول معين، رعاية لما تقدم بيانه من المصلحة، ولا ضرر في ذلك؛ لأنه تابع على كل حال، فليكن تابعا لما أمره به ولي الأمر في الشئون العامة والحقوق المشتركة بين الأمة، وقد استدل بعض المعاصرين بأن الصحابة قالوا: «إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه كتاب ولا سنة، فقال: " اجمعوا له العالمين ولا تقضوا فيه برأي واحد (١)» على الإلزام، ولكن الاستدلال به يتوقف على إثبات كونه عن